13 شهرًا منذ بداية الحرب، سُتة أشهر منذ عودتي للعمل. تحمل الأيام طابعًا متجددًا من التحدي، بعضها يبدو كأول يوم عودة، شاق على النفس، عقلك هناك لكن يجب أن تكون هنا، تشعر أنك بعالمٍ موازٍ. وما تبقى من أيام هو جهدٌ مضني للسعي رغم كل شيء.
قرار مؤجل
منذ ما يقارب العام ونصف، وأنا أفكر بالكتابة على لينكد إن، في مشاركة وسط كوكبة من مختصي المحتوى النشطين. لكن كل شيء فقد قيمته أو بوصلته مع السابع من أكتوبر. والآن ولأني في رحلتي نحو العودة من جديد، قررت أن أبدأ هنا. سأكتب عن غزة أولًا، الحرب، والعمل، هذا المزيج الذي بدا فيه الطموح مستحيلًا، والكتابة عن شيءٍ غيره أمرًا غير منطقي.
لنبدأ بنصيحة، وخاطرة
توجد قاعدة مهمة في المحتوى، هي أن تكتب فيما تعرف، وحبذا لو كتبت بناءً على تجربتك الشخصية، وليس فقط قصة حقيقة لم تخضها أنت. أكتب ما يمليه عليك عقلك، دع الأفكار تتدفق.
وأنا، لم أجد الآن ما أدركه أكثر من أن تكون غزيًا، في جهادٍ مستمر نحو العودة، كطائر العنقاء يخرج من الرماد مهما احترق. يخطر لي أحيانًا أنه على الأساطير أن تتبدل، وأن يكون الإنسان الغزي الأسطورة الحقيقية.
منح الحياة معنى من جديد
فكرة السعي مجددًا رغم كل شيء، كزرع فسيلة في أرضٍ قاحلة. تدرك أنها بداية جديدة، وإن كانت في مسار مشيته كثيرًا، لكن منظورك الآن تغير كليًا، فتشعر أنك تضع أول طوبة من جديد.
ولأن السعي عبادة، تقرر أن تبدأ، وتمنح الحياة معنى بعد أن فقدت ملامحها. فرغم أن للسعي ضروريات تفرضها الدوامة التي نعيشها، إلا أنه عبادة. يؤنسني دومًا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”. اسع مجددًا
الخطوة الأولى، التقبل
الرفض لن ينجيك، سيغرقك أكثر ليس إلا. والتقبل لا يعني النسيان، بل المواجهة كي يتحقق السعي. أن تتجرد من التعلق بالماضي ورفض كل ما يحصل، وتعترف بوجوده. نعم الحرب بدأت ومستمرة، نعم فقد الغزيّ كل شيء تقريبًا، نعم لا زلنا نقاوم، والعمل مقاومة أيضًا.
هنا ستترك روحك مساحة صغيرة لعقلك كي يبدأ التخطيط والتركيز مجددًا.
العودة، محاولات مستمرة
العودة ليست سهلة، لكن القرار والنية يمهدان الطريق. غبت سبعة أشهر عن العمل فقط حتى تمكنت من الرجوع، آخرون غابوا أكثر، آخرون لم يمتلكوا رفاهية الانقطاع فترة طويلة، وبعضهم اضطر للعمل تحت القصف. جميعها محاولات حثيثة، تتضمن تحديات لم تخطر ببالك يومًا؛ فاليوم لا تفقد التركيز بسبب الملل، أو التشتت بين أكثر من مهمة، أو بعض الأمور الشخصية التي يرجو الغزيّ عودتها.
ركز، أنت هنا
في البداية ستشعر أنك تبذل نفس الجهد الذهني للعودة كأول مرة يوميًا، المفتاح هنا هو الإصرار على الاستمرارية، والانغماس في بحر المهام اليومية قدر المستطاع.
استعادة روتين العمل ليس هينًا، نفس الروتين الذي كنت تبحث عن حلول هنا وهناك لتغييره؛ وكي أكون صريحة معك سيكون غالبًا مستحيلًا. بيئة العمل المعتادة مُسحت، فتصبح مجبرًا على التأقلم والتركيز في المعنى الأسمى.
أعرف أشخاصًا يعملون في خيمة، شارع، قرب أي وسيلة إنترنت ممكنة. فالروتين ليس مهمًا هنا، بل أن تكون حاضرًا، وأن تعمل لفكرة، رسالة، ومعنى. أنت هنا الآن، في عملك الذي بنيته لسنوات، لن تدع سنة واحد تهدمه هو أيضًا.
قدر المستطاع
شيء واحد عليك أن تعرفه عن الغزيين، نحن لا نستسلم، أبدًا. ستجدنا نعمل قدر المستطاع، المستطاع الذي قد يكون مستحيلًا بالنسبة للكثير خارج غزة. ربما بحكم أننا وُلدنا ونشأنا في مكان يجبرك على التأقلم مع التحديات والتعامل معها، وعلى شق طريقك بين أربعة جدارنٍ لا يبدو لها مخرجًا. حتى وإن خرجت، ستبقى حاضرًا هناك.
هذه يا عزيزي إحدى المهارات التي لن تكتسبها سوى في غزة، وهي ما يشدك كل يوم للنهوض والإنجاز.
بداية مشوهة
ربما ليست هذه البداية التي كنت أطمح إليها، لكن الذكرى التي لن تُمحى، والجرح الذي لا يندمل، يستحق أن تكتب عنه أولًا.
ولأنّي أدرك أننا هنا كُثر، نسعى لاستدراك كل شيء.. لم يفتك شيء، لأنك عايشت أهوالًا كل شيءٍ مقابلها صفر. تذكر أن السعي وسط الأزمة وسيلة لبناء معنى جديد، وأن الأجدر دائمًا أن تركز على ما يمكنك تحقيقه مهما كان حجمه. تستطيع مسك زمام الأمور مجددًا، هذا ما جُبلنا عليه.